Tuesday, December 11, 2007

الغانية النائمة

الغانية النائمة

يأخذنا الروائي الكبير غابرييل ماركيز مرة أخرى إلى عوالم سحرية، في رواية جديدة صغيرة نسبياً صدرت تحت اسم "ذاكرة غانياتي الحزينات".
بطل الرواية هو رجل أعزب في التسعين من عمره، يعيش في عزلة عما حوله، واسع الاطلاع لكنه يفتقر إلى الابداع، لذلك هو يعتمد على النزر القليل الذي يجنيه من معاش تقاعدي من وظيفته كمحرر رسائل في صحيفة وبضعة مقالات ينشرها هنا وهناك بالإضافة إلى ثروة عائلته التي استهلكها ببطء.
يمضي العجوز أيامه بين كتبه اللاتينية والإغريقية والموسيقى الكلاسيكية (مثل باخ وموتسارت)، يكتب مقالاته بنزق منتظراً موتاً تأخر في المجيء. ويقرر البطل في يوم ميلاده التسعين أن يهدي نفسه فتاة عذراء في مقتبل العمر، ويتصل بقوادة يعرفها، فتتدبر الأمر. وحين يدخل غرفة الفتاة –في بيت الدعارة- يجدها نائمة، وهنا يرتبك العجوز بشدة، ويفضل أن يراقب "الطفلة" النائمة بدلا من إيقاظها، وفي النهاية ينام بجانبها، ليكتشف "المتعة التي لا تصدق في تأمل جسد امرأة نائمة دون تسرع الشهوة أو عوائق الحياء". فيكتشف العجوز في التسعين أنه –رغم علاقاته الجنسية المتعددة- لم يحبّ امرأة قطّ، وأن علاقته العذرية بالطفلة النائمة هي –رغب غرابتها- أقرب ما حظي به إلى علاقة حبّ طبيعية. "لم أضاجع امرأة قطّ، دون أن أدفع لها؛ والقليلات اللواتي لم يكنّ من نساء المهنة، أقنعتهن بالحجة أو بالإكراه." حيث أنه مارس الجنس آلاف المرات في حياته ولكنه لم يمارس الحب قطّ. "كنّ حتى الخمسين من عمري خمسمئة وأربع عشرة امرأة".
يحافظ العجوز على علاقته بالفتاة، فيواظب على زيارتها كل ليلة محافظاً على الشكل الغريب للعلاقة، فهو لا يراها مستيقظة أبداً ولا يكلمها، ولا يعرف عنها حتى اسمها، مما دفعه لاحقاً إلى أن يسمّيها ديلغادينا، وهو اسم فتاة في ترنيمة لاحظ أنها انفعلت في نومهاعندما غناها لها. ويحس العجوز بعد هذه العلاقة أن عمره لم يعد مسألة يجب أن تحد من نشاطه، وأنه ما زال قادراً على الإنجاز والعطاء، فينشط في كتابة مقالاته باعتبار أن كل ما يكتبه هو من أجلها، فهذه العلاقة الشابة كأنها أعطته هدفاً يعمل من أجله. "ومغشى عليّ باستذكار ديلغادينا النائمة، دون هوادة، بدلت دون أدنى خبث روح مقالاتي في أيام الآحاد. فصرت أكتبها لها، أياً كانت المسألة التي أطرحها."
لتنعكس هذه العلاقة في المقالات، "صرت أكتبها كرسائل حب، يمكن لأي كان أن يعتبرها له" أي أنه لم يبدأ في الابداع إلا الآن. وبالفعل فقد جذبت التغييرات الجذرية في نوعية مقالاته الكثير من القراء، بل وأصبح محط اهتمام النقاد ومادة صالحة للجدال.
ويظهر نشاط العجوز بعد ذلك من خلال اعتنائه بالمنزل القديم الذي كان قد بدأ بالتهدم، فيعمل على ترميمه، واصلاحه، في اشارة إلى حياته التي كانت حطاماً، قبل أن يقابل الطفلة. "كان البيت يولد من رماده، وأنا أبحر في حب ديلغادينا بزخم وسعادة لم أعرفهما قط، في حياتي السابقة." حيث أنه من الطريف أن يعتبر العجوز أن لديه حياتين، أولاهما التسعون عاماً التي قضاها دون حب والحياة الثانية/البعث هي علاقة عمرها بضعة أسابيع.
تبدأ علاقته بالطفلة بالتطور بشكل غريب، فهما يتقابلان كل ليلة، لكن دون أن يقوم بينهما أي نوع من الاتصال الانساني.
ونلحظ غرابة نوع العلاقة بينهما، فالعجوز يقرأ لها القصص التي يجب أن يقرأها من في سنها، في محاولة لتعويضها عن طفولتها المفقودة، فهي تعتني بأمها المريضة وإخوتها الصغار وتعمل عملاً مرهقاً في أحد المصانع. ويحاول أن يسمعها موسيقى راقية، كأنه قائم على تربيتها، فعلاقته بها أقرب إلى الأبوة، التي لم يجربها من قبل. ويعمل كذلك على نقل بعض ممتلكاته المفضلة، من كتب ولوحات إلى فرشاة أسنان ومستلزمات شخصية، إلى الغرفة التي يلتقيان فيها، ليحول بيت الدعارة إلى بيت له.
ومن المذهل أيضاً أن العجوز تعلم أن يتواصل معها خلال نومها، "فقد توصلت إلى العثور على نبرة صوت حذر، تسمعه هي دون أن تستيقظ، وتردّ عليّ بلغة طبيعية من جسدها." في نوع من التفاهم الذي تجاوز الحواس الخمس، ليلتقيا في بعد آخر، تفتحت عليه عينا العجوز فجأة، ليصاب بدهشة كدهشة الأطفال من المشاعر التي تنتابه، بل ومن تصرفاته ومشاعره التي أصبحت مرهفة كما لم تكن من قبل، "صرت سهل الدمع، فأي احساس له علاقة بالحنان، يسبب لي عقدة في حلقي، لا أتمكن دوماً من التحكم فيها."
وفي نهاية هذه العلاقة/الرحلة التي اكتشف فيها الرجل نفسه وما لم يعرف عن الحب، تقول له احدى عشيقاته السابقات "إياك أن تموت قبل أن تجرب روعة لمضاجعة عن حبّ." ويقرر بعد ذلك أن ينتقل للعيش مع حبيبته التي أحسها كروح أو حلم بدل أن يعرفها كشخص من لحم ودم، حيث يشعر أنه "ليس هناك نكبة أسوأ من موت المرء وحيداً".

No comments: