Thursday, May 13, 2010

Shutter Island

شاتر آيلاند

غيث عمر

يعود المخرج الشهير "مارتن سكورسيزي" في عام 2010 لنا بفيلم "shutter island"، بعد أن حاز منذ 3 سنوات على جائزة أوسكار - تأخرت عقوداً عديدة، بشهادة الكثيرين- عندما ترشح لها للمرة السابعة.

المخرج الأمريكي الذي عاش في نيويورك وصنع معظم أفلامه في أجواءها، كان قد قدم للسينما الأمريكية عدة أفلام هامة، ربما أفضلها الفيلم الصادم والمثير للجدل "سائق التكسي" الذي كان عبارة عن نقد شديد لبذاءة المجتمع الأمريكي في السبعينات، وحالة الفساد المستشري فيه من دعارة وفساد سياسي، وقدم بعده أفلاماً أخرى هامة، مثل "رفاق طيبون"و "الثور الهائج" و"ملك الكوميديا" و"عصابات نيويورك".

فيلمه الأخير "شاتر آيلاند" جاء من بطولة الممثل "ليوناردو دي كابريو" الذي بات وجهاً مألوفاً في أفلام "مارتن سكورسيزي" في العقد المنصرم، بالإضافة إلى نخبة من الممثلين المساندين مثل "بين كينجسلي" و"ماكس فان سيدو"، فأفلامه في العادة تتمحور حول بطل ذكر في عالم ذكوري، بينما تلعب المرأة دوراً ثانوياً رغم أن تأثيرها على الأحداث هام ومباشر في أحيان كثيرة.

تدور أحداث الفيلم في خمسينات القرن الماضي، على جزيرة منعزلة لا تحوي إلا سجناً\مصحة عقلية للسجناء الخطرين المضطربين نفسياً، حيث تقدم لهم هذه المصحة علاجاً نفسياً في ظل حراسة مشددة لا توجد إلا في السجون. إلى هذه الجزيرة يصل المحقق المارشال "ادوارد دانيال" (الممثل دي كابريو) مع شريكه الجديد "تشاك" ليحققوا في قضية اختفاء امرأة –سجنت لقتلها أطفالها الثلاثة بدم بارد- من غرفتها دون أثر، في ظروف عجيبة. فالغرفة محكمة الإغلاق، والمرأة اختفت حافية القدمين في جزيرة منعزلة لا سبيل منها واليها إلا البحر، والحرس لم يتركوا بقعة في الجزيرة دون تفتيش.

مع تقدم أحداث الفيلم نرى البطل يتذكر في "فلاش باك" أيام كان جندياً أمريكياً يحارب في ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية ويمشي في شوارعها بين عشرات الجثث التي كانت ضحايا قسوة النازيين، ولكن الفيلم لا يمجد الجنود الأمريكيين، فالمخرج المناهض للحرب يرينا مشهدا لاحقاً يقوم الجنود الأمريكيون فيه باعدام عشرات الجنود الألمان -الذين استسلموا ورموا أسلحتهم- بمنتهى الوحشية.

من خلال تعامل المحقق مع العديد من موظفي المصحة يبدو واضحاً أنهم جميعاً يخفون شيئاً عنه، وأنهم ليسوا مستعدين للتعاون لكشف القضية التي يبدو أنها أكبر مما تبدو. ونكتشف السبب حينما يخبر المحقق زميله أنه طلب أن يعمل على هذه القضية بالذات لأنه أمضى عدة أشهر في جمع معلومات عن هذا المكان، ويعرف أن المكان في الحقيقة تابع لقسم مسؤول عن محاربة الشيوعية، وأن المصحة تجري تجارب على البشر (الاشتراكيين إن أمكن) في مجالات طبية، شبيهة بتجارب النازيين على اليهود، وأنه جاء إلى هذا المكان ليكشف فساد حكومته التي استعملت جنودها لتحارب دولاً هي ليست أقل عنصرية أو قسوة منها.

اذن المكان ليس مجرد مصحة للمضطربين، بل حقل تجارب لعمليات جراحية غير شرعية على الدماغ والأعصاب، وأدوية تسبب الهلوسة ولغسيل الدماغ، وتتأكد شكوك المحقق بعد أن يكتشف أن المرأة التي اختفت هي في الحقيقة طبيبة سابقة في المصحة، لم تكن توافق على الأساليب الهمجية وعلى فئران التجارب البشرية، فحاولوا قتلها فهربت.

هنا تبداً قصة الفيلم والتي كانت متماسكة في البداية، في التفكك، ويسأل المشاهد عدة أسئلة عن أهداف الشخصيات وتصرفاتهم، وعند نهاية الفيلم، تتخذ القصة منعطفاً حاداً، يبين أن المحقق ما هو إلا محقق سابق وأنه الآن مريض في هذه المصحة، وأن جميع الأطباء والموظفين كانوا جزءاً من لعبة أدوار قاموا بها جميعاً ليعيش المحقق في العالم الذي بناه في خياله، عله يشفى من تلك الأوهام التي صنعها خياله ليبرر وجوده في تلك المصحة ، لينهار هنا البناء القصصي تماماً، تاركاً المشاهداً في حيرة من أمره، هل اختار المؤلف هذه النهاية ليفاجئ المشاهد وحسب، متناسياً المنطق والحبكة، أم أنه لم يستطع أن يجد نهاية مناسبة للقصة التي بناها على مدار أول ساعة ونصف؟

على كل نهاية الفيلم جاءت على غرار الكثير من أفلام الإثارة والغموض الأمريكية مؤخراً وخصوصاً منذ منتصف التسعينات، والتي تعتمد على نهاية رخيصة تفاجئ المتفرج، فيخرج الساذج أو قليل الخبرة من الفيلم مذهولا من تلك المفاجئة، ويخرج المتفرج الجدي حانقاً على من استهان بذكائه. المختلف هنا أن الفيلم كان مبنياً على بداية قوية نوعاً ما، فظننت أنها ستكون رحلة رجل يحاول أن يصالح ماضيه القذر في الحرب عن طريق فضح فساد حكومته، بل وبدا أنه ربما يسقط حروب الولايات المتحدة الحالية وقضايا مثل أبو غريب أو غوانتانامو على الواقع عن طريق ذكره للخوف من الشيوعيين في خمسينات القرن الماضي، لكنه ألغى كل هذا بنهايته الغريبة.

المخرج له تاريخ مشرف، والفيلم رغم نهايته المفاجئة جاء متقناً فنياً، فالكاميرا كانت ذكية، فبقيت على مسافة مناسبة من الشخوص، وأطرتهم بشكل مناسب وكانت حركتها تزيد في توتر المشهد أو هدوئه حسب الحاجة، ورغم أن المخرج قام بدمج اللقطات في المونتاج على نحو جعل المشاهد يحس أن الكاميرا تقفز قفزاً من زاوية إلى أخرى، لكن هذا الأسلوب لم يكن غريباً بشكل يزعج بصرياً، بل كان ممتعاً بدرجة كبيرة واستعمل باعتدال.

ووظف المخرج الموسيقى التصويرية بشكل مثير للاعجاب، فرفعت أداء الفيلم بمجمله وكانت تعلو وتهبط في الوقت المناسب لتزيد التأثير الدرامي وتعززه. فالفيلم جاء ممتعا فنياً وضعيفاً من ناحية النص والحبكة، فكما قال أحد النقاد عنه "لو أنني استطعت نزع عقلي، لاستمعت عيناي وأذناي بالفيلم".

Thursday, March 18, 2010

خزانة الألم

ما تزال الحرب الأمريكية على العراق موضوعاً ساخناً، ولا تزال السينما الأمريكية تعالج الحرب والاحتلال من زوايا عدة، رغم عزوف المشاهد الأمريكي عن هذه الأفلام التي ما يزال معظمها ضعيفاً من نواحٍ فنية. فيلم "خزانة الألم" -والذي تم انتاجه في عام 2008 وحاز على جائزة أوسكار أفضل فيلم منذ عدة أيام- لا يتميز عن هذه الأفلام إلا بأنه ابتعد عن السياسة وحاول الخوض –ربما- في قصص بطولية لأفراد.
الفيلم يتابع ثلاثة أفراد يعملون في وحدة في الجيش الأمريكي تتخصص بتفكيك أو تفجير القنابل المصنوعة منزلياً، والتي يزرعها "ارهابيون" -لا يناقش الفيلم أصولهم أو توجهاتهم أو أهدافهم- في جميع أنحاء بغداد. هناك الشاب صغير السن "إلدريدج" الخائف والمتوتر دائماً، خصوصاً بعد أن تسبب تردده بمقتل الرقيب\الفني قائد وحدته السابق في بداية الفيلم. وهناك الرقيب المستعد دائماً "سانبورن" والذي يعمل بشكل احترافي ويتبع الأصول، مما يجعله على خلاف دائم مع الرقيب\الفني الجديد "جايمس" والذي يتصرف بشكل عشوائي ضارباً بالقواعد عرض الحائط، والذي سنكتشف لاحقاً خلال الفيلم أنه مدمن على الحرب والخطر، فهو يتعمد أن يورط نفسه –ووحدته أحيانا- في مواقف خطرة.
الفيلم لا يناقش سبب وجود هؤلاء الجنود في العراق، ولا يسمح لهم بالتشكيك في ذلك، فحتى في نهاية الفيلم عندما يشعر "سانبورن" باليأس ويعبر عن كرهه للمكان، فهو لا يشكك بسبب الحرب وأنه موجود لإرضاء طمع أفراد في حكومته، ربما لأن المشاهد الأمريكي تعب من سماع هذه الأسطوانة، وإشفاقاً من أن يغرقه في كره الذات. لكن على المشاهد أن يسلم بأن الجنود موجودون في العراق، حيث الكل عدو محتمل، وكل كبير وصغير ورجل وامرأة قد يكون قنبلة موقوتة، أو ارهابياً يريد أن يفجر الجميع. فالارهابيون يفجرون قنابلهم في الشوارع والحواري والمدارس دون تمييز، وقلة من يقاتلون جنود الاحتلال وجهاً لوجه.


البطل الأمريكي يوقف عراقياً


قد يصعب في الحقيقة إدراج الفيلم في خانة نوع معين، فهو ليس درامياً خالصاً، وليس فيلم آكشن أيضاً، بل يحتوي على مزيج من الاثنين بالاضافة إلى الكثير من الاثارة والتشويق، فهو يحتوي على تفجيرات عدة، وتبادل لاطلاق النار بين الجنود وأعداء مجهولين يظهرون فجأة في منتصف الصحراء أحياناً في مشهد طويل لا داعٍ له. إذن هو لا يتابع معاناة أفراد في حرب لا تنفعهم، بل قصصاً عن بطولة الجنود المحاطين بالخطر من كل صوب.
السيء في الفيلم هو ضعف البناء القصصي فيه، فقد جاء النص ضعيفاً وغير متماسك، ويحتوي العديد من الأجزاء غير المفهومة والتي لا يستطيع المشاهد أن يربطها ببعضها، ففي أحد المشاهد في بداية الفيلم يتم اخلاء المنطقة من الناس لشك الجنود بوجود قنبلة، وبعد أن يقترب "جايمس" من القنبلة مرتدياً البذلة المقاومة للانفجارات ينطلق سائق تكسي عراقي وسط الجنود بسيارته دون سبب مفهوم، ويوقفه "جايمس" بمسدسه وقسوته، ليمنعه من التقدم –لا ندري إلى أين- ويجبره على التراجع، هل الهدف من هذا المشهد هو التأكيد على قوة وشجاعة "جايمس"؟ أم التفوق الأمريكي ككل؟ وفي مشهد آخر، نرى "جايمس" يبحث عن من قتل صديقه الطفل العراقي الذي يبيعه أفلاماً مقرصنة، فيدخل منزلاً ليجد فيه بروفيسوراً عراقياً اسمه "نافيد" لا ندري ما علاقته بالطفل، ولكنه يرحب به قائلاً أنه سعيد بأن أحد أفراد ال"سي آي إيه" هو ضيف في منزله، وفجأة تخرج زوجته لتطرد الجندي صارخةً عليه بالعربية.



جندي يتحدث إلى عراقيين في الشارع، فجأة نكتشف أنهم كانوا يزرعون قنابل، كأن الشعب العراقي كله يزرع المتفجرات


استعملت المخرجة "كاثرين بيجلو" كاميرات محمولة باليد لزيادة الاثارة، وتعمدت أن تجعل التصوير مهزوزاً بشكل كبير ربما ليحس المشاهد أنه موجود في الحدث ولتساعده على الاندماج مع الشخصيات ولكن ذلك كان أدى إلى نتيجة عكسية، بالاضافة إلى الكثير من "الزوم إن" و"الزوم أوت" حتى في لحظات عاطفية، مما قتل أي تماسك بين اللقطات التي جاء في منتهى القصر، وساهم المونتاج في زيادة الإثارة بتقطيع المشاهد إلى لقطات تنتقل عبر المكان في قفزات مزعجة بصرياً، وجاءت كثير من اللقطات خالية من المحتوى، فلا تركز على عنصر مهم بذاته، بل تتحرك دون هدف.
موسيقى الفيلم لم تكن إلا عنصراً ساعد على تصعيد الموقف لزيادة الإثارة، فقد كانت قليلة ومتباعدة، وتم استعمال معظمها في المشاهد التي كان البطل ينزع فتيل قنبلة أو يقاتل أعدائه فيها.
باختصار الفيلم يروي قصة بطل واحد بشكل أساسي، حيث أنه فاشل في حياته الاجتماعية، ولكنه جيد في عمله، وهو مدمن على الخطر، فلا بد أن يأخذ جرعته منه في كل مهمة. يعكس الفيلم نظرة المخرجة للعراقيين حيث نراهم في الفيلم اما إرهابيين يزرعون الدمار في كل مكان دونما هدف، ليقتلوا المدنيين كيفما اتفق، أو نراهم سلبيين يتفرجون من بعيد، ويراقبون الجنود الأمريكيين الذين يخاطرون بحياتهم لجعل العراق أكثر أماناً، وربما يشفع للفيلم في هذا أنه أصلاً لم يركّز إلا على ثلاث شخصيات فقط وهمش باقي الأدوار. النتيجة النهائية أن الفيلم لم يحمل مغزىً معيناً ولم يحو فكرة يريد ايصالها، فلا هو تحدث عن حرب العراق سياسياً، ولا هو عبر عن معاناة جنود يخوضون حرباً لإثراء رؤسائهم، ولا هو اقترب من الشعب العراقي الذي استبيحت أرضه ونهبت ثرواته ودمّرت آثاره، ولا جاء الفيلم معالجة عميقة لشخص أدمن الخطر والحرب فشخص حالته أو شرح سببها، رغم أن الفيلم بدأ باقتباس مقاده أن "الحرب مخدر يسبب الادمان".
حصد الفيلم ست جوائز في الأوسكار، ففازت مخرجة الفيلم "كاثرين بيجلو" بجائزة أفضل مخرج، وفاز فريق المونتاج بجائزة أفضل مونتاج، وفاز مؤلف النص الصحفي "مارك بول" والذي كان قد رافق فرقة لتفكيك القنابل في العراق (ومع ذلك كان نصه مليئاً بأخطاء فادحة من هذه الناحية) بجائزة أفضل نص وفاز الفيلم بأوسكار أفضل فيلم رغم ضعفه الفني من عدة زوايا، مما يعيد يطرح سؤال يتردد منذ سنوات بين مثقفين عن مدى أهمية جوائز الأوسكار التي تعتبر أشهر جوائز السينما العالمية –وليست أهمها اطلاقاً- والتي تمنح في العادة لأفلام تجارية بالدرجة الأولى.

Sunday, March 16, 2008

حرب تشارلي ويلسون


غيث عمر
رغم أن عدة أفلام تتحدث عن غزو العراق وأفغانستان، وما خلفه هجوم 11\أيلول منذ حدوثه، إلا أنه من المثير للاهتمام أن يظهر هذا مؤخراً فيلم حربي، يعتبر ضخماً بالنظر إلى نجومه وايراداته، رغم أنه يتحدث عن الحرب الأفغانية-السوفييتية، والدور الذي لعبته الولايات المتحدة آنذاك.
فيلم “Charlie Wilson’s war” هو أحدث بطولة للممثل الأمريكي الأشهر "توم هانكس" الحائز على جائزة الأوسكار مرتين على التوالي، يقوم فيها بدور عضو الكونجرس الذي يحمل الفيلم اسمه. يشاركه البطولة كل من نجمة هوليوود "جوليا روبرتس" في دور "Joan"، والممثل الموهوب "فيليب سيمور هوفمان" الذي بات وجهاً مألوفاً في كثير من الأفلام مؤخراً، سواء في دور البطولة أم في أدوار ثانوية شديدة التنوع، يلعب هنا دور رجل مخابرات في “CIA” اسمه "Gust". هذه الأسماء بحد ذاتها كافية لتغري أي منتج بانتاج الفيلم، فأرباحه مضمونة، ربما كان هذا سبباً دفع توم هانكس إلى انتاجه بنفسه.
عندما يشاهد تشارلي تقريراً متلفزاً عن المجاهدين، يسأل تشارلي أحد الموظفين في الكونغرس عن ميزانية العمليات المخصصة لأفغانستان، ويطلب منه أن يرفعها من خمسة ملايين إلى عشرة ملايين. عند ملاحظة اهتمامه بالقضية، تتصل به جوان –امرأة ثرية من تكساس- لتطلب منه حضور فيلم عن الوضع في أفغانستان.
ترتب له بعد ذلك رحلة إلى باكستان، ليلتقي بالرئيس "ضياء الحق". في مشهد اللقاء بين تشارلي والرئيس ومساعديه، يتم تصوير الباكستانيين على أنهم محدودي الذكاء إلى حد ما، ومباشرون وعدوانيون في تعاملهم. ويزور بعد ذلك مخيمات اللاجئين على الحدود مع أفغانستان، ليرى آثار العدوان السوفييتي الغاشم على الأفغان معدومي الحيلة.
يعود تشارلي من باكستان ويطلب أن يلتقي فوراً بموظف من الاستخبارات ليبحث معه المسألة، ليقابل "غاس"، رجل الاستخبارات يوناني الأصل، ذو الخبرة الواسعة في الاستخبارات. يكتشفان أنهما يحتاجان إلى أسلحة سوفييتية الصنع –حتى لا تتورط الولايات المتحدة بشكل مباشر- ولا تتوفر هذه الأسلحة إلا عند مصر واسرائيل، فيقرران أن يقوما بجولة في الشرق الأوسط.
تبدأ الجولة بزيارة اسرائيل –التي يعتبر تشارلي أنه رجلها في الكونغرس- ويتحدث الرجلان مع شخص من الموساد، يعدهم بتوفير أسلحة لهم، رغم عدم ثقته بتعاون يضم مصر والسعودية ودولتان أخريان –باكستان وأفغانستان- لا تعترفان بحق اسرائيل في الوجود. يزوران بعد ذلك مصر، حيث يستغلان راقصة ليحقق وزير الدفاع كل مطالبهم، وبعد احتفال مع الرئيس الباكستاني –الذي يطالب أن يبقى التحالف مع اسرائيل سرياً- يتم الإعلان أن السعودية ستدفع مبلغاً يعادل ما ستدفعه الولايات المتحدة.
هناك بعد ذلك سلسلة من المشاهد القصيرة التي تمثل الرفع التدريجي للدعم المالي والحربي للمجاهدين، إلى أن يصل إلى مليار دولار تتحملها كل من الولايات المتحدة والسعودية مناصفة. ومن ثم مشاهد أخرى عن خسائر القوات السوفييتية ومن ثم خروج السوفييت من أفغانستان. يلي بعد ذلك مشاهد أخرى عن رفض الولايات المتحدة تقديم أي مبلغ مهما صغر للبنى التحتية والمدارس في أفغانستان التي لم تكن أكثر من ساحة حرب لم تخسر فيها الولايات إلا الأسلحة، ولم يكسب منها الأفغان إلا الأسلحة.
الفيلم يتميز بحواره الساخر ومشاهده الطريفة طول مدته البالغة تسعين دقيقة، رغم أن محتواه السياسي كان ولا يزال مهما، بل وفعّالاً حتى هذه اللحظة. الملاحظ أن الكوميديا في هذا الفيلم أقرب إلى المسلسلات التلفزيونية، ذات القفشات المضحكة، لكنها ليست ملائمة لفيلم سياسي كهذا، ربما لأن الجمهور الأمريكي لا يستطيع ابتلاع السياسة إلا مع الكثير من النكتة.
شخصيات الفيلم هي كشخصيات أي فيلم أمريكي حربي، هناك الأبطال الذين يلحقون الهزيمة بالأعداء، هناك واحد أو اثنان من السياسيين الذين يرفضون القيام بأي خطوة إيجابية لمساعدة الأبطال، الذين يتميزون وحدهم بالذكاء والسخرية، بل والقدرة على فهم الدعابة. بالإضافة إلى افقتارها للدافع، عدا عن الكره المطلق للسوفييت، نحن لا نعرف لماذا تهتم امرأة ثرية من تكساس بلاجئين أفغان.
الفيلم في غاية الضعف من معظم النواحي الفنية، الموسيقى لم تكن على أي قدر من التميز، ومحاولات خلق جو شرقي في المشاهد التي تجري في الشرق لك تكن قادرة إلا على إضحاكي. أما التصوير والإضاءة في الأماكن المغلقة فكانت أقرب إلى المسلسلات التلفزيونية التي يملك المخرج خبرة سابقة فيها، ظهرت –بأسوأ أشكالها- في هذا الفيلم.
من المثير للاهتمام أن الفيلم يقضي وقتاً طويلاً في الحديث عن السوفييت والأفغان والحرب الباردة، دون أدنى إشارة إلى ما تمثله القاعدة وطالبان الآن. ليست هناك أدنى إشارة إلى الاتجاه الإسلامي الذي خصته الولايات المتحدة بالعناية، أو النظام الإسلامي الشديد التطرف الذي قام بعد نهاية الحرب أو حقيقة أن هؤلاء الخلفاء سيصبحون بعد عقد واحد ألد أعداء الولايات المتحدة. أو حقيقة أن الولايات المتحدة دخلت أفغانستان غازية، لتقوم بفظائع لم يقدر الجيش السوفييتي عليها. فالفيلم يتحدث دون حياء عن أن السوفييت يقتلون الأطفال ويغتصبون النساء، فيما فضائح الجيش الأمريكي في العراق -بل وأفغانستان نفسها- لا تزال طازجة.
رغم النهاية المحزنة للقوة الوحيدة التي كانت قادرة على مقارعة الولايات المتحدة، إلا أن الإعلام الأمريكي لا يزال مصرّاً على تصوير السوفييت على أنهم "الأشخاص الأشرار"، في محاولة لاسترجاع تاريخ –تعتبره مجيداً- تمحو به عاراً لا يزال جديداً.

Friday, February 29, 2008

هي فوضى؟


ما زالت أفلام المخرج العربي الأشهر يوسف شاهين تثير ضجة عند عرضها، وتتسابق الجماهير إلى القاعات التي تعرضها. فيلمه الأخير -الذي أخرجه بمعاونة مساعده وتلميذه خالد يوسف- "هي فوضى؟" ربما يكون أكثرها اثارة للجدل منذ عدة سنوات، فبعد فيلمه البائس بجميع المقاييس "سكوت حنصوّر"، وبضعة أفلام لم تعرض في دور العرض المحلية، يعود شاهين بفيلم أنتج بدعم فرنسي، حاله حال كثير من الأفلام العربية التي يبتعد عنها المنتجون العرب لسبب أو لآخر.
يناقش الفيلم قضايا محورية وهامة وساخنة في مصر حالياً، ويركّز بشكل أساسي على الفساد المنتشر في مراكز الأمن وبين رجال الشرطة. عبر متابعة ضابط الشرطة "حاتم" -الذي أدى دوره باقتدار الممثل خالد صالح- الأربعيني الأعزب الذي يعيش في منطقة شعبية مقابل الأرملة بهية "هالة فاخر" وابنتها معلمة المدرسة نور "منّة شلبي"، ويرغب في الزواج من نور التي تكون بطلة خيالاته الجنسية، وما ينفك يطاردها في منتهى السماجة.
ولكن نور تحب مأمور الشرطة الشاب شريف "أحمد سليم" ابن مديرة المدرسة المتحررة "هالة صدقي" التي تنتمي إلى جيل السبعينات الثوريّ. ويتعمق الفيلم في علاقة خطوبة -لم يكن لها مبرر درامي حقيقي- بين شريف وفتاة سيئة الخلق، تنتهي بانفصالهما.ليقع شريف في حب نور ويخطبها، وفي غمرة غضبه، يأخذ حاتم نوراً إلى جزيرة معزولة ويغتصبها، لم يكن مشهد الاغتصاب طويلاً أو واضحاً، ولكن المشهد الذي تلاه ومنّة شلبي تغادر الجزيرة ودمها يغطي ملابسها الممزقة كان صادماً ومزعجاً إلى حد كبير. وتبداً بعد ذلك سلسلة طويلة من المشاهد التي توضح مدى الفساد المستشري في قسم الشرطة، فرغم رتيته العالية إلا أن الشاب شريف لا يستطيع إثبات التهمة على حاتم الذي يتواطأ معه مدراء القسم.
وبينما يبحث نور وشريف عن دليل داخل المركز الأمني، تتحرك الجماهير دفاعاً عن شرف نور ويقتحم الآلاف قسم الشرطة في مشهد تقليدي، يمثّل غضبة جماهيرية قامت كرجل واحد لتتخلص من حاتم الذي كان يخيم على صدور أهل المنطقة ببلطجته وفساده.
فيما خلا شخصية بهية التي استخدمها شاهين مراراً في أفلامه رمزاً لمصر، خلا الفيلم من الرمز بشكل شبه تام، فجاء الفيلم مباشراً إلى درجة أنه بات قريباً إلى الأفلام الوثائقية. ربما قصد شاهين أن السيل قد بلغ الزبى، وأن الفساد استشرى بشكل لم تعد تنفع معه المواربة، ولكنه لم يترك للمشاهد ما يكتشفه أو يفكّر فيه، وكان هذا على حساب عمق الفيلم وقيمته الفنية، فجعله سطحياً إلى حد كبير. وجاءت الشخصيات مسطعة وخالية تماماً من التعقيد، ومشاعرها مباشرة وبسيطة جداً، بينما كان بامكانه التركيز أكثر على شخصية الشرطي الشرير والاقتراب منها بعمق أكير، بدلاً من اثبات فساده مشهداً بعد مشهد. فتحدث حاتم عن طفولته المعذبة وافتقاده للحنان طول عمره في لقطة قسيرة لا تزيد عن نصف دقيقة.
أداء الممثلين الرئيسيين كان جيداً جداً بشكل عام، ولكن المذهل بحق هو أداء خالد صالح الذي نجح في تقمص شخصية الشرطي الفاسد المتوحش، وجعل الدور "دوره" فعلاً. وتمكن من جذب الأنظار في أول دور بطولة له، حيث أنه يعد اكتشافاً متأخراً، بعد سنين من الأدوار الثانوية. ولكن كان من الممكن جعل الشخصيات أكثر عمقاً وتعقيداً مع طاقم مقتدر بهذا الشكل.
الفيلم يعد ممتازاً عند مقارنته بالأفلام التي تعرض عادة في دور السينما، ولكن نظرة دقيقة ومقارنة مع الأفلام التي يتم انتاجها في أوروبا وآسيا، بل وبعض الدول العربية الأخرى مثل المغرب وسوريا، تجعل الفيلم عادياً من وجهة نظر فنية. رغم خلوّه من الأخطاء الفادحة التي تحويها الأفلام التجارية، إلا أن الفيلم لم يحقق أي إنجاز في مجالات التصوير والإضاءة والسينماتوغرافيا والصوت.....إلخ.
طرح الفيلم بشكل صريح مشكلة المعتقلين السياسيين الذين يتم احتجازهم دون محاكمة أو حتى تهمة، ويرفض بعض الضباط اطلاق سراحهم رغم أوامر بعض الأشخاص النظيفين في سلك القضاء، وعرض مشاهد مؤلمة للتعذيب الذي يتم في مراكز الشرطة وحالات وفاة المقبوض عليهم تحت التعذيب والتي باتت ظاهرة مرعبة في مصر. مر بشكل سريع على المد السلفي الجديد، ولم يناقش دور الأحزاب في مصر اليوم، رغم أنه عرض دور الحزب الحاكم في مصر منذ 25 عاماً.
كان من الممكن أن يتعمق الفيلم في جذور المشكلة السياسية في مصر بدلاً من عرض مشاهد لها، فجاء الفيلم مشتتاً بين الحياة الشخصية البائسة لحاتم، والفساد المستشري في جهاز الأمن والدولة، إلى أن يقضي الشعب على كليهما معاً (حاتم والفساد).

Le Chaos

Egyptian film-director Yussef Shahin is –without a doubt- the most famous Arab director, at least in the Arab world. His latest movie “Le Chaos” is funded by French production, many Arab films have been receiving such funding, in order to produce films that –supposedly- have some artistic value, but Arab producers wouldn’t be willing to make them, fearing that they won’t achieve proper profits at the box office.
The film discusses the corruption in Egypt that increased drastically over the few past decades, especially among the police. The film doesn’t only display a corrupt police officer, but also the methodical police brutality inside police stations, torturing political prisoners and political corruption in the ruling party that’s been in authority for 25 years.
Other than the character “Baheya” -which Shahin used many times as a symbol of Egypt itself- the film is very direct and obvious, perhaps the director intended to give up on using metaphors and thought that it’s time to talk freely and openly, which affected the plot of the film by making it straight-forwarded and perhaps a little shallow and obvious.
The film is about a corrupted police officer “Hatem” –beautifully done by Khaled Saleh- in his forties. This policeman runs a whole network of bribery and mutual interests. He knows how to win his bosses, either by pretending to be a straight officer or by obeying the orders he receives off the record, to imprison and torture the youth that is caught while protesting the degenerated government.
“Hatem” is in love with a teacher –“Nour”- that lives across the hall with her mother “Baheya”. “Nour” keeps rejecting “Hatem” who tries to connect sexually with her picture, clothes and by peeking on her while showering, not knowing that she loves her headmistress’s son “Sharif”, the district attorney who is engaged to another girl.
“Sharif’s” relation –and then breakup- with his fiancée wasn’t needed in the film, and caused only distraction and discontinuity to the events, this space should’ve been used to focus on issues more important and related to the core of the problems the film tries to discuss.
Finally, when “Hatem” knows that “Nour” is about to get engaged to “Sharif”, he kidnaps her and rapes her in a boathouse. The rape scene wasn’t very long, but disturbing enough. In the end, “Hatem” shows how rotten the system has grown when he was able to get an alibi from higher officers that use him and need him. “Sharif” finally breaks into the police station and finds a witness that was being hidden; at the same time the people living nearby –fed up with “Hatem” bullying them for so long- march into the police station and break the gates in a huge scene.
The film doesn’t discuss the characters deeply, which makes them one-dimensional, with hardly any background, dreams or complex emotions.
The actors give remarkable performances, young Minna Shalbi is as good as ever in her role as “Nour”, and both Hala Sidqi and Hala Fakher give their best performance. But the outstanding performance was that of Mr. Saleh in his first leading role, being given secondary parts up until now, Saleh proves himself to be a first class actor, giving a solid performance.
Other than that, the film was only good when compared to commercial Arab films that are usually poor when discussed artistically. The photography, lighting, cinematography and sound were all average.

Wednesday, January 30, 2008

أكيرا كوروساوا - بيوغرافيا



غيث عمر

"بالنسبة لي، عمل الأفلام يدمج كل شيء معاً، لهذا جعلت من السينما عمل حياتي. في الأفلام يلتقي الرسم والأدب، والمسرح والموسيقى. رغم ذلك يظل الفيلم فيلماً." قال هذه العبارة المخرج العبقري أكيرا كوروساوا الملقب بالامبراطور. الذي يعد من أهم ثلاثة مخرجين في تاريخ السينما، ويشير المخرج هنا إلى علاقة السينما بالرسم والأدب الذين اهتم بهما منذ صغره.



كان أكيرا الأخ الأصغر لسبعة اخوة وأخوات، ولد عام 1910 لعائلة ميسورة الحال في ضواحي طوكيو، وكان والده متأثراً بالعادات الغربية فاصطحب عائلته مراراً إلى الأفلام التي كانت حديثة في ذلك العهد. تأثر أكيرا الفتى كثيراً بمدرسه الذي شجعه على ممارسة هواية الرسم، وتأثر أكثر بأخيه "هيجو" الذي عشق السينما وكان لانتحاره في منتصف عشريناته أثراً كبيراً على أكيرا الشاب.
في سن السادسة والعشرين عمل كوروساوا مساعد مخرج، ويقول كوروساوا أن هذه المهنة هي التي علمته أصول الإخراج، فقد كان مساعد المخرج في اليابان وقتها يضطلع بدور مهم في تصميم الملابس والديكور والإضاءة والتصوير ويعمل مع الممثلين عن قرب، فاكتسب مهارات مكنته في عام 1943 من اخراج فيلمه الأول "حكاية الجودو البطولية" الذي يعتبر نوعاً من البروباغاندا ضد الولايات المتحدة، حيث يحكي قصة عن تفوق رياضة الجودو اليابانية على الملاكمة الأمريكية، وكانت معظم أفلامه في الأربعينات ذات مضمون وطني قد لا يخلو من التسطيح، حيث أن جميع أفلامه كانت مراقبة من السلطات اليابانبة والأمريكية التي منعت فيلمه "الرجل الذي داس على ذيل النمر".
يعتبر فيلم "راشومون" المنتج في 1950 من أهم أفلام المخرج، وهو الفيلم الذي جعل منه أشهر مخرج آسيوي على الإطلاق، فقد نال الفيلم جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية الدولي، وكان أول فيلم ياباني ينال شهرة عالمية، ويعرض خارج اليابان على نطاق واسع، وأخرج كوروساوا على مدى الخمسة عشرة عاماً اللاحقة عدداً من أفلام الساموراي، أو أفلاماً مقتبسة عن قصص ومسرحيات من غرب، وكانت أفلامه هذه تلاقي نجاحاً هائلاً، وكثيراً ما اقتبس الغرب عنها لصنع أفلام مثل "السبعة المدهشون" المأخوذ عن فيلم "الساموراي السبعة"، وفيلم سيرجيو ليوني "من أجل حفنة من الدولارات" المقتبس عن فيلم "يوجمبو".


أخذ النقاد في اليابان على كوروساوا تأثره بالثقافة الغربية، فقد أخرج فيلماً عن رواية دوستويفسكي "الأبله"، وأخرج أفلاماً عن مسرحيات لشكسبير، وغير ذلك. فكانت أفلامه تحقق نجاحاً أكبر في الغرب.
واجه كوروساوا منذ منتصف الستينات مشاكل في التمويل، فقد كانت كل مشاريعه تلغى، ولم يخرج خلال خمسة أعوام إلا فيلماً لاقى فشلاً تجارياً، فحاول الانتحار في عام 1971، وجرح معصمه ثلاثين مرة، لكنه لم يمت لحسن الحظ. وجاءه عرض من الاتحاد السوفييتي باخراج فيلم بميزانية مفتوحة وأن يختار النص الروسي الذي سيستعمله للفيلم، فاختار مذكرات مكتشف في بدايات القرن العشرين يقوم برحلة في سيبيريا، ليخرج عام 1975 فيلم "ديرسو أوزالا" –فيلمه الوحيد الناطق بغير اليابانية- الذي نال جائزة الأوسكار.
بعد ذلك أخرج كوروساوا فيلمين ضخمين هما "كاجيموشا"1980 الذي قام بتمويله اثنان من أشهر المخرجين في الولايات المتحدة "فرانسيس كوبولا" و"جورج لوكاس". و فيلم "ران"1985 بتمويل من منتج فرنسي، وكان هذا الفيلم مشروعاً عمل عليه كوروساوا لمدة عشرة أعوام. وأخرج في بداية التسعينات ثلاثة أفلام كانت على كم كبير من الخصوصية والشفافية. وتوفي كوروساوا عام 1998 مخلفاً وراءه ثلاثين فيلماً من إخراجه.
من المعروف عن كوروساوا أنه كان يطلب الكمال في عمله، فقد قام في فيلم "راشومون" بصبغ المياه –التي ستستعمل لتصوير مشاهد المطر- بالحبر حتى يكون المطر ثقيلاً، وقام باستعمال كل مخزون المنطقة من احتياطي المياه في تصوير فيلمه. وكان يوزع ملابس الشخوص على الممثلين قبل التصوير بأسابيع كي يعتاد الممثلون عليها. وكان غالباً ما يعمل مع نفس الأشخاص في طاقم العمل أو الممثلين، وتعتبر شراكته مع الممثل "توشيرو ميفونِه" من أشهر ثنائيات المخرج-الممثل في السينما العالمية، فقد عملا معاً في 16فيلماً.
استعمل كوروساوا أسلوب مسح الإطار "frame wipes" في الانتاج عند التنقل بين المشاهد، وقد اشتهر هذا الأسلوب عندما تأثر به جورج لوكاس لاحقاً، واستعمله في سلسلة أفلام "حرب النجوم"، كما تأثر بسيرغي أيزنشتاين وتقنياته في المونتاج. كان كوروساوا يحرص على الابتعاد عن ممثليه، وكان غالباً يصورهم في لقطات متوسطة، لاعتقاده أن هذا يعزز من قدراتهم التمثيلية. ويتم تدريس أسلوب كوروساوا في تقطيع اللقطات في كثير من المراجع المتخصصة في الدراسات السينمائية.
وتتميز أفلامه باستعمال الأحوال الجوية للدلالة على الحالة النفسية للفيلم بشكل عام، فيستعمل المطر والثلج والضباب والحرارة الشديدة كأنها جزء من الديكور، ويطوّعها لخلق الأجواء المناسبة للفيلم. يقال أن المخرج جون فورد –وهو المخرج المفضل لدى كوروساوا- قال له عندما التقاه مرة بأنه لاحظ أن كوروساوا يحب المطر، فقال كوروساوا "لا بد أنك تتابع أفلامي جيداً".
رغم أنها ليست واقعية تماماً، إلا أن أفلام كوروساوا تبتعد عن الانطباعية، ويتم استخدام الرمز فيها بحذر وبحدود، خاصة في أفلامه الأولى، إلا أن أفلامه الأخيرة جاءت أكثر انطباعية، ففيلمه "أحلام كوروساوا" 1990 جاء في غاية السريالية، واحتوى كماً هائلاً من الرموز التي كانت حاضرة دائماً في خيال المخرج، فكأن أفلامه الأخيرة هي نوع من المذكرات أو الاعترافات أو البحث عن الخلاص عن طريق تعرية الذات.

Tuesday, December 25, 2007

No Country for Old men

ليست بلداً لكبار السن
No country for old men
غيث عمر

فيلم (نو كانتري فور أولد مِن) هو أحدث فيلم من إخراج الأخوين "كُوِن"، اللذين كتبا وأخرجا أفلاماً معا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. الفيلم المنتج في عام 2007 يحمل بلا شك النكهة المميزة للأخوين والتي شاهدناها في أفلام مختلفة منذ "بلود سيمبل" إلى فيلمهم الأشهر "فارغو". رغم أن هذا الفيلم أقرب إلى أفلام المطاردة وتكثر فيه مشاهد الحركة والإثارة.
السيناريو المأخوذ عن رواية لكورماك مكارثي، تدور أحداثه في المناطق الحدودية التي تربط الولايات المتحدة بالمكسيك، وتحديداً في صحارى وبلدات تكساس، حيث المكان نفسه هو جزء من القصة، فوحشية مسرح الأحداث تمثل جزءاً هاما من القصة، فبداية الفيلم هي عبارة عن تصوير للصحارى في تكساس بينما أحد أبطال الفيلم (الشرطي) يتحدث عن تغير مفهوم الأمن لدى الناس مع مرور الزمن.
قدم (تومي لي جونز) أداءاً جيداً في دور الشرطي المتشائم الذي يحمل في عينيه حزناً عميقاً طوال مدة الفيلم، حيث أن إد بيل هو الجيل الثالث في عائلة توارثت منصب الشريف في تلك المنطقة، يروي إد بيل في بداية الفيلم أن جده لم يكن يضطر لحمل سلاح عندما كان شرطياً في الأزمنة الغابرة، بينما اضطر هو لإرسال فتىً إلى الإعدام لأنه قام بقتل فتاة فقط للمتعة، وبعد أن الفتى عبر بوضوح عن رغبته في القتل مجدداً إذا ما تم الإفراج عنه، في هذا المجتمع الجديد يحاول إد أن يحافظ على الأمن في منطقة تعج بالقتلة والمجرمين وتجار المخدرات.
بطل الفيلم ليولين موس (جوش برولين) كان يصطاد غزلاناً في أحد الأيام فإذا به يعثر على مجموعة من السيارات قد تجمعت في منطقة نائية من الصحراء، اقترب ليكتشف أن كل الموجودين –ومعظمهم مكسيكيون- قد قتلوا، فأخذ مليوني دولار وجدها في مكان المجزرة التي كانت مكاناً لإتمام صفقة مخدرات. من الطريف أن صورة البطل في السينما الأمريكية قد لا ترتبط بالأخلاق، فهو يسرق مالاً حراماً، ولكنه يعتبر بطلاً رغم ذلك.
الأداء المذهل بحق هو لشخصية أنتون شيغور الذي قام به (خافيير باردم) في أداء شخصية قاتل سيكوباثي يقتل باستعمال مسمدس هواء يستعمل لذيح الحيوانات، ويعطي بعض ضحاياه الفرصة في النجاة عبر لعبة (طرة-نقش)، ويقوم هذا القاتل بمطاردة البطل بكل اصرار وعناد ليأخذ النقود، مرتكباً جرائمه بهدوء وذكاء ومنتهى الوحشية. حتى أن بقية شخوص الفيلم لا يحاولون الوقوف في طريقه، بل الهرب منه قدر الإمكان، كأنه شبح يصطادهم، ويعلمون أن أي محاولة للمقاومة ستكون عقيمة. شخصية شيغور هي شخصية مسطحة نوعاً ما، وجاء ذلك في سبيل جعلها شخصية متطرفة جداً، فلم يحاول الفيلم طرحه كشخصية واقعية. وهذا نتيجة لإخلاص المخرجين للكتاب الذي أُخذ منه النص، فشخصيات أفلامهم الأخرى مثل تحفتهم (فارغو) هي شخصيات مأخوذة من الواقع، وهي عندما ترتكب الجريمة فهي لدوافعها الخاصة، وترتكب الجريمة بغباء وسذاجة في العادة. بينما يطرح هذا الفيلم شخصيات رمزية أقرب إلى أفلام (رعاة البقر) الأقوياء القادرين دوماً على الاعتناء بأنفسهم أو شخصيات كرتونية مبالغ بها.
الأحداث بمجملها هي تصادم الشرير شيغور مع البطل ليولين، بينما الشرطي العجوز هو دائماً في إثرهم، غير قادر على اللحاق بالشابين الذين يقومان بصنع الحدث، مكتفياً بالتفرج في كثير من الأحيان. قد يكون هذا رمزاً لما يحدث في معظم المجتمعات، التي تستغني عن كبار السن، بينما يقوم الشباب بصياغة حاضرهم ومستقبلهم، ليكتفي المسنون بانتظار نهايتهم، تماماً كما في مجتمعات المستقبل التي تخيلها الدوس هكسلي في رواياته.
المفاجئ في الفيلم هو الاستغناء التام عن الموسيقى، فلا صوت أو أغنية في الخلقية ما خلا الصحراء في الليل، أو الأحذية التي تقرع أعقابها الأرضيات الخشبية.
الفيلم لم يقدم كل الأحداث للمتفرج، فلم نرَ البطل وهو يقاتل ثم وهو يموت، بل نراه فجأة جثة مسجاة أمامنا بينما قتلته يلوذون بالفرار، ولا يتابع الفيلم بعد ذلك قصة النقود، متخذاً بذلك مجرىً غير تقليدي، حتى لا يكون مجرد فيلم "آكشن" آخر. وينتهي الفيلم نهاية غير سعيدة، عبر موت البطل، وهرب الشرير، وتقاعد الشرطي بعد أن يحس بالعجز والضعف وأن زمنه قد انتهى. ويجلس في نهاية الفيلم مع زوجته ليتحدث عن النشاطات التافهة التي يستطيع ممارستها بعد تقاعده.
الفيلم "أمريكي جداً" إذا صح القول، فهو قريب من أفلام الجرائم وملئ بالعنف والدم، ولكنه يقدم طرحاً أعمق من الأفلام الهوليوودية المعتادة، ومع ذلك لا يرقى إلى مستوى الأفلام الأوروبية التي تكون في العادة أكثر عمقاً وشفافية في التعامل مع المسائل الإنسانية.

Caramel (Sukkar Banat)

سكر بنات
غيث عمر

لا شك أن فيلم سكر بنات (كراميل) هو فيلم نسوي الطابع، لكنه ظل مع ذلك قريباً من المشاهد من كلا الجنسين. فرغم أن الفيلم يتعرض لحياة مجموعة من النساء يعشن في بيروت، ورغم أنه يحرص على تغييب صورة الذكر قدر الإمكان، إلا أن الفيلم جاء واقعياً بدرجة مدهشة، من خلال تفاصيل الحياة اليومية التي يعرضها بدقة، كما عودتنا السينما اللبنانية التي طالما كانت صريحة إلى أبعد الحدود.
الفيلم الذي يستمد اسمه من مادة السكر التي تستعملها النساء لانتزاع الشعر عن أجسادهن، من اخراج اللبنانية نادين لبكي التي اشتهرت بإخراج عدة فيديوكليبات بالإضافة إلى التمثيل في أفلام أخرى، فجاء هذا الفيلم العميق والخفيف الظل مفاجئاً بعض الشيء. والفيلم من بطولة المخرجة التي شاركت أيضاً في كتابة السيناريو ومن بطولة مجموعة من الشباب والشابات الذين تمت ادارتهم بشكل جيد للحصول على أداء جيد من معظم الشخوص.
يتعرض الفيلم لحياة أربع شابات يعملن في صالون للتجميل في بيروت، وينحدرن من عائلات متوسطة الحال ومحافظة سواء أكانت مسلمة أم مسيحية. وتتعدد قصصهن فالبطلة ليال تحب شخصاً لم يظهر طوال الفيلم إلا من ظهره أو من بعيد، وكل ما نعرفه عنه أنه متزوج ولديه ابنة، وقد سهّل عدم ظهوره في الفيلم من عملية طرحه كشخص لا يخون زوجنه وحسب، بل يعامل عشيقته أيضاً بمنتهى الدناءة والحقارة، ونلاحظ طوال الفيلم أن الذكر هو الغائب الحاضر، فهو لا يؤثر في الأحداث بشكل مباشر، لكنه السبب فيها بطريقة أو بأخرى، فالنساء اللواتي يعملن في مكان محرّم على الرجال، لم يستطعن التخلص من سلطته ونفوذه. وهناك أيضاً نسرين الشابة المسلمة التي على وشك الزواج، ولكنها تخضع لعملية لاعادة ما فقدته في علاقة سابقة لا يدري خطيبها شيئاً عنها.
قصة جمال هي قصة تقليدية، فهي مطلقة تعيش مع ولديها بعيداً عن طليقها الذي يهمل أولاده ليظل مع عشيقته، بينما تحاول جمال -كامرأة في منتصف العمر- التشبث ببقايا شبابها وجمالها، فتخدع من حولها بإظهار أن دورتها الشهرية ما زالت منتظمة، بينما هي –في الحقيقة- قد جاوزت سن اليأس. وفي هذا الفيلم الملئ بالرموز، قد تكون قصة ريما –الشابة الرابعة في الصالون- هي الأكثر رمزية وامتلاءاً بالإشارات التي لا يجرؤ المجتمع على طرحها، فريما ترتدي ملابساً شبيهة بملابس الرجال دائماً، ومن ثم تنشأ علاقة غريبة بينها وبين زبونة جميلة باتت تتردد على الصالون لتغسل ريما شعرها، فكأنهما سحاقيتان تمارسان الحب عن طريق هذه الطقوس، وتقترح ريما على الزبونة أن تقص شعرها لتصبح مثلها، فترد الزبونة بأن أهلها سيثورون ان هي قامت بذلك، لتقوم في نهاية الفيلم بقص شعرها متحررة من سلطة العائلة وكاسرة التابو.
ونعرف منذ بداية الفيلم أن الشرطي يوسف يحب ليال، ولكنها تكرهه لسماجته، فتكون أكثر مشاهد الفيلم رمزية عندما تقوم الفتيات بسحب الذكر إلى عالمهن (صالون التجميل) الذي يعتبر من المحرمات على الذكور، فيدخل وراء الباب المغلق ويكون في غاية الارتباك، وتقمن بعد ذلك بازالة شاربه وبعض شعر وجهه بالسكر، في طقوس شبيهة بالتطهير الكنسي حيث تقاطعت هذه المشاهد مع مشهد العيد الذي يعرض رجال الكنيسة والأطفال يمشون في الشوارع ويغنون التراتيل الكنسية. ليكتسب بعد مروره بهذه الطقوس الأنثوية تعاطف وحب المشاهد، فكأن العلاقة السوية بين الرجل والمرأة قائمة على تخلي الذكر عن غروره والتسليم بالمساواة التي هي أساس أي علاقة سوية.
تميز الفيلم منذ بدايته بسينماتوغرافيا في غاية الاتقان، وكانت لقطاته مصورة ببراعة، وكانت اللقطات القريبة على الوجوه قليلة ومستخدمة بحكمة، فلم تقطع تدفق المشاهد. وكانت معظم اللقطات البعيدة ثابتة وتحتوي على قدر من العمق والرمزية. وقد يرجع الفضل هنا إلى الفريق الذي ساعد المخرجة التي كانت أمام الكاميرا معظم وقت الفيلم.
يحتوي الفيلم على أغنيتين من غناء رشا سلامة جاءتا متناسبتين مع نسق الفيلم وأحداثه، فكانتا مكملتين للفيلم على عكس معظم أفلام اليوم التي تجيء فيها الأغنية منفصلة عن محتوى الفيلم ومعاكسة لإيقاعه. وتم استخدام الموسيقى الكلاسيكية في جزء كبير من الفيلم كموسيقى للخلفية، بينما كانت الموسيقى قدسية في مشهد العيد المسيحي.
قصة الفيلم جاءت بسيطة وسلسة، دون أحداث درامية ضخمة، معتمدة على بناء الحدث بهدوء ودون ضجة. فلم تتصاعد حدة المشهد لدرجة الانفجار إلا مرة أو مرتين وفي مشاهد قصيرة نسبياً. وتخلى السيناريو أحياناً عن الحوار، مكتفياً بلغة العيون والجسد، تاركاً للمشاهد القدرة على استنباط الفكرة.
حاولت المخرجة من خلال الفيلم التعرض لأكبر عدد من قضايا المرأة التي يواجه المجتمع الشرقي صعوبة في فهمها والتعامل معها، وكان تعاملها معها في غاية البساطة والتساهل، فلم تظهر الفتاة التي أقامت علاقة خارج الزواج بالصورة النمطية التي درجت الأفلام على عرضها، والتي تظهر الفتاة كأنها تعيش حياة عابثة، ولكنها تندم على ما اقترفته ومن ثم تعود إلى السراط القويم. وفضلت عرض قضية المثليات جنسيا من بعيد، مكتفية بالرمز، فلم يقع الكتاب في فخ الوعظ المباشر الثقيل على القلب.

Tuesday, December 11, 2007

الغانية النائمة

الغانية النائمة

يأخذنا الروائي الكبير غابرييل ماركيز مرة أخرى إلى عوالم سحرية، في رواية جديدة صغيرة نسبياً صدرت تحت اسم "ذاكرة غانياتي الحزينات".
بطل الرواية هو رجل أعزب في التسعين من عمره، يعيش في عزلة عما حوله، واسع الاطلاع لكنه يفتقر إلى الابداع، لذلك هو يعتمد على النزر القليل الذي يجنيه من معاش تقاعدي من وظيفته كمحرر رسائل في صحيفة وبضعة مقالات ينشرها هنا وهناك بالإضافة إلى ثروة عائلته التي استهلكها ببطء.
يمضي العجوز أيامه بين كتبه اللاتينية والإغريقية والموسيقى الكلاسيكية (مثل باخ وموتسارت)، يكتب مقالاته بنزق منتظراً موتاً تأخر في المجيء. ويقرر البطل في يوم ميلاده التسعين أن يهدي نفسه فتاة عذراء في مقتبل العمر، ويتصل بقوادة يعرفها، فتتدبر الأمر. وحين يدخل غرفة الفتاة –في بيت الدعارة- يجدها نائمة، وهنا يرتبك العجوز بشدة، ويفضل أن يراقب "الطفلة" النائمة بدلا من إيقاظها، وفي النهاية ينام بجانبها، ليكتشف "المتعة التي لا تصدق في تأمل جسد امرأة نائمة دون تسرع الشهوة أو عوائق الحياء". فيكتشف العجوز في التسعين أنه –رغم علاقاته الجنسية المتعددة- لم يحبّ امرأة قطّ، وأن علاقته العذرية بالطفلة النائمة هي –رغب غرابتها- أقرب ما حظي به إلى علاقة حبّ طبيعية. "لم أضاجع امرأة قطّ، دون أن أدفع لها؛ والقليلات اللواتي لم يكنّ من نساء المهنة، أقنعتهن بالحجة أو بالإكراه." حيث أنه مارس الجنس آلاف المرات في حياته ولكنه لم يمارس الحب قطّ. "كنّ حتى الخمسين من عمري خمسمئة وأربع عشرة امرأة".
يحافظ العجوز على علاقته بالفتاة، فيواظب على زيارتها كل ليلة محافظاً على الشكل الغريب للعلاقة، فهو لا يراها مستيقظة أبداً ولا يكلمها، ولا يعرف عنها حتى اسمها، مما دفعه لاحقاً إلى أن يسمّيها ديلغادينا، وهو اسم فتاة في ترنيمة لاحظ أنها انفعلت في نومهاعندما غناها لها. ويحس العجوز بعد هذه العلاقة أن عمره لم يعد مسألة يجب أن تحد من نشاطه، وأنه ما زال قادراً على الإنجاز والعطاء، فينشط في كتابة مقالاته باعتبار أن كل ما يكتبه هو من أجلها، فهذه العلاقة الشابة كأنها أعطته هدفاً يعمل من أجله. "ومغشى عليّ باستذكار ديلغادينا النائمة، دون هوادة، بدلت دون أدنى خبث روح مقالاتي في أيام الآحاد. فصرت أكتبها لها، أياً كانت المسألة التي أطرحها."
لتنعكس هذه العلاقة في المقالات، "صرت أكتبها كرسائل حب، يمكن لأي كان أن يعتبرها له" أي أنه لم يبدأ في الابداع إلا الآن. وبالفعل فقد جذبت التغييرات الجذرية في نوعية مقالاته الكثير من القراء، بل وأصبح محط اهتمام النقاد ومادة صالحة للجدال.
ويظهر نشاط العجوز بعد ذلك من خلال اعتنائه بالمنزل القديم الذي كان قد بدأ بالتهدم، فيعمل على ترميمه، واصلاحه، في اشارة إلى حياته التي كانت حطاماً، قبل أن يقابل الطفلة. "كان البيت يولد من رماده، وأنا أبحر في حب ديلغادينا بزخم وسعادة لم أعرفهما قط، في حياتي السابقة." حيث أنه من الطريف أن يعتبر العجوز أن لديه حياتين، أولاهما التسعون عاماً التي قضاها دون حب والحياة الثانية/البعث هي علاقة عمرها بضعة أسابيع.
تبدأ علاقته بالطفلة بالتطور بشكل غريب، فهما يتقابلان كل ليلة، لكن دون أن يقوم بينهما أي نوع من الاتصال الانساني.
ونلحظ غرابة نوع العلاقة بينهما، فالعجوز يقرأ لها القصص التي يجب أن يقرأها من في سنها، في محاولة لتعويضها عن طفولتها المفقودة، فهي تعتني بأمها المريضة وإخوتها الصغار وتعمل عملاً مرهقاً في أحد المصانع. ويحاول أن يسمعها موسيقى راقية، كأنه قائم على تربيتها، فعلاقته بها أقرب إلى الأبوة، التي لم يجربها من قبل. ويعمل كذلك على نقل بعض ممتلكاته المفضلة، من كتب ولوحات إلى فرشاة أسنان ومستلزمات شخصية، إلى الغرفة التي يلتقيان فيها، ليحول بيت الدعارة إلى بيت له.
ومن المذهل أيضاً أن العجوز تعلم أن يتواصل معها خلال نومها، "فقد توصلت إلى العثور على نبرة صوت حذر، تسمعه هي دون أن تستيقظ، وتردّ عليّ بلغة طبيعية من جسدها." في نوع من التفاهم الذي تجاوز الحواس الخمس، ليلتقيا في بعد آخر، تفتحت عليه عينا العجوز فجأة، ليصاب بدهشة كدهشة الأطفال من المشاعر التي تنتابه، بل ومن تصرفاته ومشاعره التي أصبحت مرهفة كما لم تكن من قبل، "صرت سهل الدمع، فأي احساس له علاقة بالحنان، يسبب لي عقدة في حلقي، لا أتمكن دوماً من التحكم فيها."
وفي نهاية هذه العلاقة/الرحلة التي اكتشف فيها الرجل نفسه وما لم يعرف عن الحب، تقول له احدى عشيقاته السابقات "إياك أن تموت قبل أن تجرب روعة لمضاجعة عن حبّ." ويقرر بعد ذلك أن ينتقل للعيش مع حبيبته التي أحسها كروح أو حلم بدل أن يعرفها كشخص من لحم ودم، حيث يشعر أنه "ليس هناك نكبة أسوأ من موت المرء وحيداً".

البرتقالة الآلية A clockwork orange

البرتقالة الآلية A clockwork orange
غيث عمر


يبدأ فيلم "البرتقالة الآلية" بلقطة كبيرة جداً لعين ألكس، ومن ثم تبتعد الكاميرا ببطء عن عينه الجذابة –نوعاً ما- برمشها الاصطناعي والنظرة الكسولة، لتحيط بالبار الذي يجلس فيه ألكس وأصدقاؤه يحتسون حليباً مخلوطاً بمخدر. "البطل المضاد" ألكس –كما سنكتشف بعد قليل- هو شاب لم يتجاوز العشرين، وهو قائد لعصابة من أربعة أفراد ترتدي ملابساً موحدة غريبة، وتمارس "العنف المتطرف" كما يصفه الراوي، فيضربون في بداية الفيلم متشرداً سكّيراً، ويقاتلون عصابة أخرى من العصابات التي تسيطر على المدينة التي تشبه لندن المستقبل كما تخيلها المؤلف وإن بقيت دون اسم.
الفيلم المنتج في عام 1972 مأخوذ من رواية بنفس الاسم تعود إلى عام 1962، قام المخرج الشهير "ستانلي كوبريك" بكتابة سيناريو الفيلم، ولم يغير في الرواية إلا النهاية المتفائلة والتي لم تكن موجودة أصلاً في النسخة الأمريكية للرواية والتي استعملها في فيلمه المثير للجدل.
يحاول المخرج منذ البداية ربطنا بشكل وثيق مع البطل/الراوي، الذي سيرتكب خلال الفيلم –بعد قليل- أبشع الجرائم. يفعل ذلك من خلال اللقطة السابفة والمحبوكة بشكل جيد، حيث استخدم المخرج اللقطة الكبيرة جداً لعين البطل ليجعل المشاهد على تواصل معه منذ بداية الفيلم، مع المحافظة على صوته أيضاً طوال الفيلم. فنجح في أن يستدرج المشاهد إلى تعاطف –لا أخلاقي ربما- لم يكن ليتحقق في ظروف طبيعية.
في الثلث الأول من الفيلم يذهب ألكس وعصابته إلى بيت اختاروه عشوائياً ويدخلون مرتدين أقنعة سخيفة تخفي وجوههم، ليقوموا بربط رب المنزل الكاتب العجوز ويغتصبون زوجته أمامه بينما ألكس قائد المجموعة يغني أغنية (غناء في المطر)(singin’ in the rain) المرحة من الفيلم الغنائي الكلاسيكي الشهير. ويقع ألكس بعد أيام في قبضة الشرطة، نتيجة خيانة أصدقائه له، ليجد أنه أدين في قضية قتله لامرأة أخرى كانت تعيش وحيدة.
يمثلُ السجنُ الثلثَ الثاني من الفيلم، حيث أنه بعد قضائه فترة في "بيت الإصلاح"، اكتسب ألكس الشاب رذائل أخرى . ولكن شبابه واندفاعه أهلاه ليكون فأر تجارب لعالم ابتكر أسلوباً من "غسيل الدماغ"، حيث يعالج مجرماً لعدة أيام يطلق سراحه بعدها، واثقاً أن علاجه –المبني على تعريض المجرم لكم هائل من الأفلام التي تحوي جنساً وعنفاً بالإضافة إلى عقار ما- سيجعل المجرم غير قادر على ارتكاب أي نوع من العنف. الهدف من هذا النوع من العلاج هو التخلص من السجناء الجنائيين لإفساح مكان للسجناء السياسيين.
الجزء الأخير من الفيلم يتحدث عن ألكس الجديد، الذي خضع للعلاج وخرج رجلاً جديداً للمجتمع، حيث أن ألكس الجديد يصاب بغثيان عند مجرد محاولته القيام أو رؤيته لأي نوع من العنف. في هذا الجزء تعود كل الشخصيات التي مرت منذ بداية الفيلم لتؤدي دوراً بناءً على ما تعرضت له في الجزء الأول على يدي ألكس، فكأنها صورة مباشرة للجريمة والعقاب، ولكن استطاع المؤلف أن يروي القصة بحيث يتضامن المتفرج مع البطل الذي ربما يستحق العقاب أصلاً. فوالدا ألكس الذين ظهرا بالكاد خلال الفيلم، يرفضان أن يعود إلى المنزل، ورفاقه الذين تسببوا بسجنه قد أصبحوا يعملون في سلك الشرطة ويقومون بضربه ضرباً مبرحاً. وينتهي هذا الجزء من الفيلم عندما يقوم الكاتب العجوز –المقعد حالياً- بحبس ألكس وتعذيبه عقاباً على اغتصاب زوجته والتسبب في قتلها. ويذكر هذا الأسلوب في الفيلم بقصص ديكنز الكلاسيكية حيث أن الشخصيات التي ظهرت في بداية الفيلم يعاد استخدامها مجدداً.
وكخاتمة للفيلم، يزور الوزير الذي أقر التجارب ألكس في المشفى الذي يتعالج فيه بعد هربه من الكاتب، ويخبره أن الكاتب والعالم قد تم التخلص منهما، وأن الحزب الحاكم يحتاج إلى مساندة ألكس بعد الفضيحة التي هزت المجتمع وقد تؤثر على الحزب في الانتخابات المقبلة. ليعرض على ألكس وظيفة مريحة في الحكومة، وينتهي الفيلم بحلم داعر لألكس يؤكد أن الفتى قد عاد إلى طبيعته الشرسة.
تغير الألوان المستعملة خلال الفيلم يدل على الحالة العامة للمشاهد، فتستخدم في بداية الفيلم ألوان حارة (برتقالي،أحمر،أصفر) بينما تسيطر الألوان الباردة (أزرق، أخضر) على النصف الأقل عنفاً من الفيلم.
ويستعمل المخرج الموسيقى ببراعة، حيث يمزج كلاسيكيات الموسيقى العالمية مع موسيقى صاخبة الهدف منها ابقاء المشاهد متحفزاً ومتوترا، كي لا يسترخي في ذلك الجو المملوء بالعنف. بالإضافة إلى الحركة التي قد تبدو غريبة أو فجة للكاميرا، التي ربما تعبر عن غرابة العالم الذي تجري فيه الأحداث، فكأن المخرج يحاول انشاء رابطة مع البطل مع ابقاء مسافة بين المتفرج والعنف الدائر أمامه.
الفيلم ربما يكون عبارة عن رمز للثورة، فألكس الشاب الذي يقوم مع أصدقائه بارتكاب العنف هم في الحقيقة يعملون ضد الحكومة الاستبدادية، رغم أن عنفهم ليس موجهاً ضد الدولة، لكنه على الأغلب نتيجة لعنف الدولة. بينما تحاول الدولة السيطرة على الشباب عن طريق نوع من غسيل الدماغ، للحفاظ على عادات المجتمع المحافظ ضد الجنس-العنف، لتنجح في النهاية في ضم الشباب إلى صفوفها.
الفيلم المتكامل من جميع النواحي الفنية، سانده الأداء المتميز للممثلين وخاصة ألكس الذي تقمص الدور فعلاً وكان طبيعياً جداً فيه، فالمخرج معروف بأنه متطلب جداً ويستطيع أن يحصل من طاقمه على أفضل ما لديهم. ترشح الفيلم لأربع جوائز "أوسكار" من بينها أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل نص، لكنه خسرها جميعاً أمام فيلم "الرابطة الفرنسية" The French Connection.

Friday, December 7, 2007

خيانة مشروعة

"خيانة مشروعة"
فلم بوليسي يتبع التقاليد الأمريكية
غيث عمر
فيلم خيانة مشروعة هو أحدث أفلام المخرج الشاب خالد يوسف، الذي قام أيضاً بكتابة النص والسيناريو والحوار، من بطولة هاني سلامة ومي عزالدين وسمية الخشاب وهشام سليم. ويمكن تصنيف الفيلم على أنه من أفلام الحركة التي درجت السينما المصرية على انتاجها في السنوات الأخيرة، ولكن حبكته البوليسية المليئة بالمفاجآت تتشابه إلى حد كبير مع أفلام أمريكية تجارية يتم انتاجها بتزايد مضطرد منذ ما يقارب العشرة أعوام، وتلقى رواجاً شعبياً هائلاً خصوصاً بين الشباب رغم تدني مستواها الفني، قد يكون أحدثها سلسلة أفلام "منشارSaw".
الفيلم يعتمد بشكل كبير على أسلوب تيار الوعي أو الاسترجاع "فلاش باك"، حيث يتم الانتقال إلى الأحداث التي حدثت في الماضي فجأة ويتم دمجها مع أحداث الحاضر باستخدام تقنيات الكمبيوتر، ويعتمد أيضاً على كشف القصة شيئاً فشيئاً ليبقى المشاهد متحفزاً للحقائق التي تعطى له بالتدريج، ليصبح أسلوب كشف الحدث أهم من الحدث نفسه ويطغى أسلوب السرد على المضمون، مما يوفر متعة سهلة للمشاهد لا تحثه على التفكير ولا تحمل فكرة أعمق مما يعرض ببساطة على الشاشة.
من المفترض أن الفيلم يتحدث عن الطبقة الوسطى في مصر، والتي بدأت تنهار بشكل مخيف منذ تطبيق سياسات الانفتاح في سبعينيات القرن الماضي، ولكن بدلا من ذلك فإن أحداث الفيلم تدور بين القصور والشقق الفخمة والبارات لعرض حياة الطبقة الغنية في معظم مشاهده، ولا يتعرض لحياة الطبقة المتوسطة إلا في مشهدين، يخلط في أحدهما بين بقايا الطبقة المتوسطة المثقفة –التي لا تزال على شيء من البرجوازية- والطبقة الفقيرة التي تؤمن بمعتقداتها ببلاهة.
ويبدأ الفيلم بالقول إن هذه قصة ثلاث نساء عرفهنّ البطل/الراوي "هشام البحيري" الذي قام بدوره هاني سلامة، وأن ثلاثتهنّ ينتمين إلى الطبقة الفقيرة، ولكن جاءت شخصيات النساء فيه نمطية نوعاً ما، بالإضافة إلى أنهن لم يعطين الانطباع خلال الفيلم بأنهن من الطبقة الفقيرة. والنساء الثلاث هن زوجة هشام نهلة وعشيقته شهد "سمية الخشاب" و ريم زوجة أخيه "مي عزالدين". القصة هي ببساطة عن شاب غني طائش "هشام" تقوم عشيقته باقناعه بأنه يجب أن يقتل زوجته التي تخونه مع شاب آخر وأخاه الذي استولى على ميراثه، وذلك بأن يرتكب جريمة شرف يكون الاثنان ضحيتها، ليكتشف بعد ذلك أن زوجته لم تخنه وأن أخاه لم يستولِ على ماله.
ولكن الحوادث تسير بشكل غير مبرر أحياناً، فالمحقق –مثلاً- الذي يسعى لكشف الحقيقة ومستعد للتضحية بوظيفته لأجل ذلك، ويتحدث عن تخليص المجتمع من الفاسدين، لا يتوانى عن تعذيب شاب في سبيل الحصول على اعترافاته. والشخصيات سطحية في معظمها، ومن الممكن أن تجدها في معظم الأفلام التي صرنا نراها مؤخراً تحت اسم "سينما الشباب". ويحتوي الفيلم على أكثر من ثيمة مبتذلة مثل الشاب الطائش الذي يتغير بعد أن يحب الفتاة الطيبة، والعاشقة الغيورة المستعدة لفعل أي شيء في سبيل استرداد حبيبها..إلخ. واحتوى الفيلم على مشهد مطاردة بالسيارات لم يكن له داع إلا اجتذاب جمهور معين إلى الفيلم، وبضع مشاهد حركة يتغلب فيها البطل على خصومه على طريقة الأفلام المصرية القديمة.
اختار المخرج أن يصور لقطات قصيرة متتابعة، يتم مونتاجها على طريقة أفلام الأكشن الأمريكية، لتكون المشاهد قصيرة إلى درجة أنها ضاقت بالحوار، مما دفع بالمخرج إلى دبلجة الصوت في كثير من المشاهد، ليكون الصوت في الخلفية “Voice over” مشتركاً بين مشهدين ليربط بينهما. وجاءت حركة الكاميرا في كثير من الأحيان على نحو لا يتناسب مع الأحداث، فكانت إما أسرع من اللازم أو أبطأ دون حاجة حقيقية لذلك. رغم أن طاقم التمثيل يضم بعضاً من أفضل ممثلي الصف الأول في مصر اليوم، إلا أن أداءهم جاء سطحياً وغير مقنع على الإطلاق، ووصل إلى حد الإلقاء المسرحي في بعض المشاهد، خاصة تلك التي كانت ترتفع فيها أصواتهم بالصراخ دون وجود بناء نصّي قوي يبرر تصاعد المشهد.
الخلاصة أن الفيلم جاء مشتتاً بين عدد من المحاور، فجاء بناؤه بوليسياً ولكن إقحام حبكات عاطفية وسياسية لم يترك مجالاً لمعالجة أي قضية بالعمق الكافي، فالفيلم يحوي مشاهد بالغة القصر عن التعذيب في السجون، أو تدخل الحكومة لتحول دون انتخابات نزيهة، أو تنقل الانتهازيين من اليسار ثم الوسط فاليمين أخيراً للوصول إلى مجلس الشعب، ولكنه لا يتعمق في أي من هذه المشاكل على الإطلاق. ويعرض بدلاً من ذلك مشاهد طويلة لمطاردة السيارات أو القتال.