ما زالت أفلام المخرج العربي الأشهر يوسف شاهين تثير ضجة عند عرضها، وتتسابق الجماهير إلى القاعات التي تعرضها. فيلمه الأخير -الذي أخرجه بمعاونة مساعده وتلميذه خالد يوسف- "هي فوضى؟" ربما يكون أكثرها اثارة للجدل منذ عدة سنوات، فبعد فيلمه البائس بجميع المقاييس "سكوت حنصوّر"، وبضعة أفلام لم تعرض في دور العرض المحلية، يعود شاهين بفيلم أنتج بدعم فرنسي، حاله حال كثير من الأفلام العربية التي يبتعد عنها المنتجون العرب لسبب أو لآخر.
يناقش الفيلم قضايا محورية وهامة وساخنة في مصر حالياً، ويركّز بشكل أساسي على الفساد المنتشر في مراكز الأمن وبين رجال الشرطة. عبر متابعة ضابط الشرطة "حاتم" -الذي أدى دوره باقتدار الممثل خالد صالح- الأربعيني الأعزب الذي يعيش في منطقة شعبية مقابل الأرملة بهية "هالة فاخر" وابنتها معلمة المدرسة نور "منّة شلبي"، ويرغب في الزواج من نور التي تكون بطلة خيالاته الجنسية، وما ينفك يطاردها في منتهى السماجة.
ولكن نور تحب مأمور الشرطة الشاب شريف "أحمد سليم" ابن مديرة المدرسة المتحررة "هالة صدقي" التي تنتمي إلى جيل السبعينات الثوريّ. ويتعمق الفيلم في علاقة خطوبة -لم يكن لها مبرر درامي حقيقي- بين شريف وفتاة سيئة الخلق، تنتهي بانفصالهما.ليقع شريف في حب نور ويخطبها، وفي غمرة غضبه، يأخذ حاتم نوراً إلى جزيرة معزولة ويغتصبها، لم يكن مشهد الاغتصاب طويلاً أو واضحاً، ولكن المشهد الذي تلاه ومنّة شلبي تغادر الجزيرة ودمها يغطي ملابسها الممزقة كان صادماً ومزعجاً إلى حد كبير. وتبداً بعد ذلك سلسلة طويلة من المشاهد التي توضح مدى الفساد المستشري في قسم الشرطة، فرغم رتيته العالية إلا أن الشاب شريف لا يستطيع إثبات التهمة على حاتم الذي يتواطأ معه مدراء القسم.
وبينما يبحث نور وشريف عن دليل داخل المركز الأمني، تتحرك الجماهير دفاعاً عن شرف نور ويقتحم الآلاف قسم الشرطة في مشهد تقليدي، يمثّل غضبة جماهيرية قامت كرجل واحد لتتخلص من حاتم الذي كان يخيم على صدور أهل المنطقة ببلطجته وفساده.
فيما خلا شخصية بهية التي استخدمها شاهين مراراً في أفلامه رمزاً لمصر، خلا الفيلم من الرمز بشكل شبه تام، فجاء الفيلم مباشراً إلى درجة أنه بات قريباً إلى الأفلام الوثائقية. ربما قصد شاهين أن السيل قد بلغ الزبى، وأن الفساد استشرى بشكل لم تعد تنفع معه المواربة، ولكنه لم يترك للمشاهد ما يكتشفه أو يفكّر فيه، وكان هذا على حساب عمق الفيلم وقيمته الفنية، فجعله سطحياً إلى حد كبير. وجاءت الشخصيات مسطعة وخالية تماماً من التعقيد، ومشاعرها مباشرة وبسيطة جداً، بينما كان بامكانه التركيز أكثر على شخصية الشرطي الشرير والاقتراب منها بعمق أكير، بدلاً من اثبات فساده مشهداً بعد مشهد. فتحدث حاتم عن طفولته المعذبة وافتقاده للحنان طول عمره في لقطة قسيرة لا تزيد عن نصف دقيقة.
أداء الممثلين الرئيسيين كان جيداً جداً بشكل عام، ولكن المذهل بحق هو أداء خالد صالح الذي نجح في تقمص شخصية الشرطي الفاسد المتوحش، وجعل الدور "دوره" فعلاً. وتمكن من جذب الأنظار في أول دور بطولة له، حيث أنه يعد اكتشافاً متأخراً، بعد سنين من الأدوار الثانوية. ولكن كان من الممكن جعل الشخصيات أكثر عمقاً وتعقيداً مع طاقم مقتدر بهذا الشكل.
الفيلم يعد ممتازاً عند مقارنته بالأفلام التي تعرض عادة في دور السينما، ولكن نظرة دقيقة ومقارنة مع الأفلام التي يتم انتاجها في أوروبا وآسيا، بل وبعض الدول العربية الأخرى مثل المغرب وسوريا، تجعل الفيلم عادياً من وجهة نظر فنية. رغم خلوّه من الأخطاء الفادحة التي تحويها الأفلام التجارية، إلا أن الفيلم لم يحقق أي إنجاز في مجالات التصوير والإضاءة والسينماتوغرافيا والصوت.....إلخ.
طرح الفيلم بشكل صريح مشكلة المعتقلين السياسيين الذين يتم احتجازهم دون محاكمة أو حتى تهمة، ويرفض بعض الضباط اطلاق سراحهم رغم أوامر بعض الأشخاص النظيفين في سلك القضاء، وعرض مشاهد مؤلمة للتعذيب الذي يتم في مراكز الشرطة وحالات وفاة المقبوض عليهم تحت التعذيب والتي باتت ظاهرة مرعبة في مصر. مر بشكل سريع على المد السلفي الجديد، ولم يناقش دور الأحزاب في مصر اليوم، رغم أنه عرض دور الحزب الحاكم في مصر منذ 25 عاماً.
كان من الممكن أن يتعمق الفيلم في جذور المشكلة السياسية في مصر بدلاً من عرض مشاهد لها، فجاء الفيلم مشتتاً بين الحياة الشخصية البائسة لحاتم، والفساد المستشري في جهاز الأمن والدولة، إلى أن يقضي الشعب على كليهما معاً (حاتم والفساد).