شاتر آيلاند
غيث عمر
يعود المخرج الشهير "مارتن سكورسيزي" في عام 2010 لنا بفيلم "shutter island"، بعد أن حاز منذ 3 سنوات على جائزة أوسكار - تأخرت عقوداً عديدة، بشهادة الكثيرين- عندما ترشح لها للمرة السابعة.
المخرج الأمريكي الذي عاش في نيويورك وصنع معظم أفلامه في أجواءها، كان قد قدم للسينما الأمريكية عدة أفلام هامة، ربما أفضلها الفيلم الصادم والمثير للجدل "سائق التكسي" الذي كان عبارة عن نقد شديد لبذاءة المجتمع الأمريكي في السبعينات، وحالة الفساد المستشري فيه من دعارة وفساد سياسي، وقدم بعده أفلاماً أخرى هامة، مثل "رفاق طيبون"و "الثور الهائج" و"ملك الكوميديا" و"عصابات نيويورك".
فيلمه الأخير "شاتر آيلاند" جاء من بطولة الممثل "ليوناردو دي كابريو" الذي بات وجهاً مألوفاً في أفلام "مارتن سكورسيزي" في العقد المنصرم، بالإضافة إلى نخبة من الممثلين المساندين مثل "بين كينجسلي" و"ماكس فان سيدو"، فأفلامه في العادة تتمحور حول بطل ذكر في عالم ذكوري، بينما تلعب المرأة دوراً ثانوياً رغم أن تأثيرها على الأحداث هام ومباشر في أحيان كثيرة.
تدور أحداث الفيلم في خمسينات القرن الماضي، على جزيرة منعزلة لا تحوي إلا سجناً\مصحة عقلية للسجناء الخطرين المضطربين نفسياً، حيث تقدم لهم هذه المصحة علاجاً نفسياً في ظل حراسة مشددة لا توجد إلا في السجون. إلى هذه الجزيرة يصل المحقق المارشال "ادوارد دانيال" (الممثل دي كابريو) مع شريكه الجديد "تشاك" ليحققوا في قضية اختفاء امرأة –سجنت لقتلها أطفالها الثلاثة بدم بارد- من غرفتها دون أثر، في ظروف عجيبة. فالغرفة محكمة الإغلاق، والمرأة اختفت حافية القدمين في جزيرة منعزلة لا سبيل منها واليها إلا البحر، والحرس لم يتركوا بقعة في الجزيرة دون تفتيش.
مع تقدم أحداث الفيلم نرى البطل يتذكر في "فلاش باك" أيام كان جندياً أمريكياً يحارب في ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية ويمشي في شوارعها بين عشرات الجثث التي كانت ضحايا قسوة النازيين، ولكن الفيلم لا يمجد الجنود الأمريكيين، فالمخرج المناهض للحرب يرينا مشهدا لاحقاً يقوم الجنود الأمريكيون فيه باعدام عشرات الجنود الألمان -الذين استسلموا ورموا أسلحتهم- بمنتهى الوحشية.
من خلال تعامل المحقق مع العديد من موظفي المصحة يبدو واضحاً أنهم جميعاً يخفون شيئاً عنه، وأنهم ليسوا مستعدين للتعاون لكشف القضية التي يبدو أنها أكبر مما تبدو. ونكتشف السبب حينما يخبر المحقق زميله أنه طلب أن يعمل على هذه القضية بالذات لأنه أمضى عدة أشهر في جمع معلومات عن هذا المكان، ويعرف أن المكان في الحقيقة تابع لقسم مسؤول عن محاربة الشيوعية، وأن المصحة تجري تجارب على البشر (الاشتراكيين إن أمكن) في مجالات طبية، شبيهة بتجارب النازيين على اليهود، وأنه جاء إلى هذا المكان ليكشف فساد حكومته التي استعملت جنودها لتحارب دولاً هي ليست أقل عنصرية أو قسوة منها.
اذن المكان ليس مجرد مصحة للمضطربين، بل حقل تجارب لعمليات جراحية غير شرعية على الدماغ والأعصاب، وأدوية تسبب الهلوسة ولغسيل الدماغ، وتتأكد شكوك المحقق بعد أن يكتشف أن المرأة التي اختفت هي في الحقيقة طبيبة سابقة في المصحة، لم تكن توافق على الأساليب الهمجية وعلى فئران التجارب البشرية، فحاولوا قتلها فهربت.
هنا تبداً قصة الفيلم والتي كانت متماسكة في البداية، في التفكك، ويسأل المشاهد عدة أسئلة عن أهداف الشخصيات وتصرفاتهم، وعند نهاية الفيلم، تتخذ القصة منعطفاً حاداً، يبين أن المحقق ما هو إلا محقق سابق وأنه الآن مريض في هذه المصحة، وأن جميع الأطباء والموظفين كانوا جزءاً من لعبة أدوار قاموا بها جميعاً ليعيش المحقق في العالم الذي بناه في خياله، عله يشفى من تلك الأوهام التي صنعها خياله ليبرر وجوده في تلك المصحة ، لينهار هنا البناء القصصي تماماً، تاركاً المشاهداً في حيرة من أمره، هل اختار المؤلف هذه النهاية ليفاجئ المشاهد وحسب، متناسياً المنطق والحبكة، أم أنه لم يستطع أن يجد نهاية مناسبة للقصة التي بناها على مدار أول ساعة ونصف؟
على كل نهاية الفيلم جاءت على غرار الكثير من أفلام الإثارة والغموض الأمريكية مؤخراً وخصوصاً منذ منتصف التسعينات، والتي تعتمد على نهاية رخيصة تفاجئ المتفرج، فيخرج الساذج أو قليل الخبرة من الفيلم مذهولا من تلك المفاجئة، ويخرج المتفرج الجدي حانقاً على من استهان بذكائه. المختلف هنا أن الفيلم كان مبنياً على بداية قوية نوعاً ما، فظننت أنها ستكون رحلة رجل يحاول أن يصالح ماضيه القذر في الحرب عن طريق فضح فساد حكومته، بل وبدا أنه ربما يسقط حروب الولايات المتحدة الحالية وقضايا مثل أبو غريب أو غوانتانامو على الواقع عن طريق ذكره للخوف من الشيوعيين في خمسينات القرن الماضي، لكنه ألغى كل هذا بنهايته الغريبة.
المخرج له تاريخ مشرف، والفيلم رغم نهايته المفاجئة جاء متقناً فنياً، فالكاميرا كانت ذكية، فبقيت على مسافة مناسبة من الشخوص، وأطرتهم بشكل مناسب وكانت حركتها تزيد في توتر المشهد أو هدوئه حسب الحاجة، ورغم أن المخرج قام بدمج اللقطات في المونتاج على نحو جعل المشاهد يحس أن الكاميرا تقفز قفزاً من زاوية إلى أخرى، لكن هذا الأسلوب لم يكن غريباً بشكل يزعج بصرياً، بل كان ممتعاً بدرجة كبيرة واستعمل باعتدال.
ووظف المخرج الموسيقى التصويرية بشكل مثير للاعجاب، فرفعت أداء الفيلم بمجمله وكانت تعلو وتهبط في الوقت المناسب لتزيد التأثير الدرامي وتعززه. فالفيلم جاء ممتعا فنياً وضعيفاً من ناحية النص والحبكة، فكما قال أحد النقاد عنه "لو أنني استطعت نزع عقلي، لاستمعت عيناي وأذناي بالفيلم".